قصص عن الحراك الشعبي في حي الشيخ جرّاح: 1956-2021

نُشرت لأول مرة على موقع جدلية - ضمن مبادرة "ذكريات فلسطينية مهددة"

صورة لمدخل منزل عائلة الشهيد عمر القاسم، بحي الشيخ جراح في مدينة القدس ١٩٨٩ - الصورة من أرشيف المتحف الفلسطيني

القرى الأمامية تضرب الطلقة الأولى بعد نكبة عام 1948

يسمع عمر عن مذبحة في قبيا شنّتها العصابة 101 بقيادة مجرم ناشئ اسمه أرئيل شارون عام 1953، ولكنه في المقابل سمع عن صمود شقيقتها شقبا واستبسال أهلها في دحر نفس القوة الغازية. تلتبس الأمور على عمر، فبالرغم من حالة التشرذم التي عاشها شعبنا بعد نكبة عام 1948 تولدت حالة عفوية من المقاومة الشعبية في قرانا ومدننا الأمامية على طول امتداد الخط الأخضر محولة إياه لخط أحمر. يستذكر عمر قصص عمه حسني الذي نشط في العبورإلى داخل الخط الأخضر محضراً معه مواسير زراعية وثمار، مدفوعاً بمزيج من الثأر، والقهر، والشجاعة، والحاجة الاقتصادية، في ظل خسارته لبيارته خلف خطوط الهدنة، كان حاله كمن خسر ابناً أو ابنةً.  

بعد ثلاثة أعوام، انتقلت عائلة عمر للسكن في حي الشيخ جراح، الذي أصبح بعد العام 1948 منطقة تماس حدودية لقربه من المنطقة الحرام وبوابة مندلبوم التي كانت منطقة تسليم شهداء، ومطلوبين، ومحكومين، ومفرج عنهم. وكانت مساحة ضيقة للم شمل عائلات الضفة الغربية وأهلهم في الأرض المحتلة في ما كان يعرف وقتها "بالمقابلات"، بحيث كانت تجلس العائلات متقابلة يفصلهم سلك شائك. داوم أخوال عمر القادمين من طيرة المثلث على مقابلة عائلة عمر في المنطقة الحرام فكانوا يجلبون ما لذ وطاب من سمك، وبرتقال، وخضار وكان الوقت يمضي في أحاديث عائلية قلّما تخللتها السياسة لمراقبة العصابات الصهيونية لهذه المساحة الحميمية.

حي الشيخ جرّاح كمساحة تضامن واشتباك-1956-1967

ستهاجم القوات الصهيونية قلقيلية وغزة في العام 1956 لردع الكوماندوز الفلسطيني عن دك الأرض المحتلة. وفي هذا السياق الشائك، قرر عمر ومجموعة صغيرة من رفاقه الفتية تحويل الغضب إلى ثأر اسناداً لأهلهم. لم يتوفر أمامهم إلا هدف واحد: ضرب القافلة الصهيونية الأسبوعية التي كانت تنقل جنوداً إلى جيب جبل المشارف الذي تمركزت فيه قوة صهيونية مهمتها حراسة مستشفى هداسا والجامعة العبرية. كانت تمر هذه القافلة من أمام بيت عمر تحديدا، ومن الممكن أن بدايات هذه العملية كانت عفوية، بحيث يقوم فتية باستشعار حركة مركبات غريبة مصفحة تتقدمها مركبة أمم متحدة، ومن ثم يتيقنون أنها تنقل جنودا صهاينة وعلى إثره يقومون برشقها بالحجارة وإعاقة حركتها. استقطع الفتية مساحة اشتباك بما تيسر من أدوات، وأصبح يوم الأربعاء يوما للكر والفر في حي الشيخ جراح واستمرت هذه العملية لغاية العام 1967. ستكون هذه إحدى بدايات العمل النضالي للشهيد عمر القاسم، الذي سرعان ما تقلد مواقع متقدمة فيه. أبو عمر القاسم كان شاويشاً في الجيش الأردني وأخوه الأكبر كان ضابط مخابرات، ولكن ذلك لم يقف حائلا أمام انخراطه بالعمل الفدائي. في العام 1962 شارك عمر القاسم بتنظيم تظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي وقنصليته الواقعة في الشيخ جراح وقام المتظاهرون باقتحام القنصلية وتكسير محتوياتها وإنزال العلم الفرنسي عنها في حالة تضامن مع أبطال الثورة الجزائرية ضد همجية الاستعمار الفرنسي هناك.

العمل الفدائي في القدس ابان نكسة عام 1967

بعد بضعة أعوام، تخرج عمر القاسم من جامعة دمشق ببكالوريوس أدب انجليزي وبدأ التدريس في مدارس القدس. وطد القاسم صلاته مع القوميين العرب وأصبح من قياداتهم، واستغل موقعه كأستاذ منظما في صفوف طلبته بحيث احتضن بيته الكثير من الدروس الخصوصية التي كانت في باطنها حلقات نقاش وتنظيم سري. كانت والدة القاسم تشك بعض الشيء في حقيقة هذه الدروس الخصوصية ولكنها لم تمنعه عن ذلك. نتيجة لذلك، نزلت نقمة السلطات عليه، فتم نقله إلى مدارس صفا، فجنين، فشرق الأردن، ومن ثم اعتقل لبعض الوقت.

 

استقطع الفتية مساحة اشتباك بما تيسر من أدوات، وأصبح يوم الأربعاء يوما للكر والفر في حي الشيخ جراح واستمرت هذه العملية لغاية العام 1967. ستكون هذه إحدى بدايات العمل النضالي للشهيد عمر القاسم، الذي سرعان ما تقلد مواقع متقدمة فيه.


 

مع نكسة عام 1967 واحتلال كامل القدس، تطوع القاسم في فرق الدفاع المدني التي تمركزت في فندق الأمباسادور والتي انشغلت في مواراة الشهداء وإسعاف الجرحى، ومن ثم بدأ بتنظيم العمل الفدائي في القدس، وهو الأمر الذي دفع سلطات الاحتلال لملاحقته ومداهمة منزله. في خضم ذلك، استطاع أخذ بعض دروس اللغة العربية في مدرسة يهودية في مستعمرة بيت هعام. ويبدو أن ذلك كان ضمن مهمة ما، وبعدها عبر القاسم إلى خارج فلسطين خلسة ببطاقة إحصاء تحمل اسم شخص آخر. وبعد قطعه للجسر تيقنت قوات الاحتلال أن الشخص الذي سمحت له بعبور الجسر كان من أبرز مطلوبيها. سيعود عمر القاسم إلى فلسطين على رأس خلية عسكرية وسيتخذ من جبال كفر مالك حصنا، مشتبكا وقواته مع جيش الاحتلال لمدة 4-5 ساعات، حتى نفاذ الذخيرة. اعتقلته قوات الاحتلال بعد ذلك، وأخضعته لتحقيق قاسِ، وأصبح من قادة الحركة الأسيرة واستشهد في الأسر، وأصبح اسمه علماً في سجل القادة الخالدين. أثناء أحداث النكسة، أصيب بيت عائلة عمر القاسم ببضعة قذائف جوية لمجاورته لمربض قذائف أردني. ولكن البيت لم ينهار، وفي هذه الأثناء يتعرض نفس البيت لحملة همجية من الاحتلال بغية إحلاله بحفنة مستعمرين، لكن للبيت رب يحميه وشعب على امتداد فلسطين يدافع عنه!

من التنسيق الأمني إلى الحراك الشعبي–في أشكال التنظيم الأفقي وبداية انحسار تجربة علي بابا والأربعين حرامي

الحراك الشعبي الذي نراه في القدس ولّد إسناداً شعبيا منقطع النظير، فمن صواريخ المقاومة في غزة إلى فورات الضفة والداخل يتشكل أمامنا حراك شعبي غير مجّير لمصالح مجموعات متنفذة أو ممثل شرعي مزعوم.  تشتعل هذه الحالة على امتداد فلسطين متخطية حدود أوسلو المتخيلة ومناطق نفوذ مخبريه وتأتي في سبيل الدفاع عن أمور حياتية-يومية-حميمية، من مسكنٍ إلى فضاءٍ حضريٍ جامعٍ (باب العامود)، إلى أماكن عبادة. ترتبط هذه الأماكن ارتباطا وثيقا بذاكرة الفلسطيني والفلسطينية، فحياتهم، وكرامتهم، وقدرتهم على إضفاء قيمة معنوية ما لوجودهم متصلة بتلك الأماكن، والتجارب والأصوات. بالرغم من ضرب الحيز المعنوي-الأخلاقي للفلسطيني في الضفة عبر عملية "بناء المؤسسات" التي قتلت الوقت الاجتماعي واختزلت فعالية الناس بدورهم في المكتب وشربهم للنسكافيه ومجاراتهم لصغار المدراء والمخبرين، تأتي هبة القدس لتضع بداية لإنهاء هذه التجربة التخاذلية وتجلياتها المتمثلة بألقاب فخامتك، سيادتك، معاليك. تضرب هذه الهبة أيضا كل محاولات أسرلة أهلنا في الداخل وتعيد جمع شمل مجتمعنا الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها.

منزل عائلة الكرد - حي الشيخ جراح في مدينة القدس ٢٠٢١

يأتي هذا العمل ضمن مبادرة "ذكريات فلسطينية مهددة" إذ نوثّق التاريخ الشفويّ الفلسطينيّ، والموادّ الأرشيفيّة الشخصيّة، ذات العلاقة بتاريخنا الاجتماعي ونرحب بأي قصص شفوية، مذكرات أو ألبومات صور قد تثري تاريخنا الاجتماعي.

Next
Next

الحاجّ علي حمدان مصلح... حافظًا لذاكرة "الزاوية" والقرى الأماميّة